نبذة عن الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس
الإمام عبد الحميد بن باديس (1889-1940) من رجالات الإصلاح في الوطن العربي
ورائد النهضة الإسلامية في الجزائر، ومؤسس جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين.
نسبه وأسرته
عرفت الأسرة الباديسية منذ القدم بإنجابها للعلماء والأمراء والسلاطين،
ويكفي أن نشير إلى أنهم ينتمون إلى ما يقول مؤلفا كتاب أعيان المغاربة
المستشرقان Marthe et Edmond Gouvion والمنشور بمطبعة فوناتانا في الجزائر
1920م, بأن ابن باديس ينتمي إلى بيت عريق في العلم والسؤدد ينتهي نسبه في
سلسلة متّصلة إلى بني باديس الذين جدّهم الأول هو مناد بن مكنس الذي ظهرت
علامات شرفه وسيطرته في وسط قبيلته في حدود القرن الرابع الهجري، وأصل هذه
القبيلة كما يقول المستشرقان من ملكانة أو تلكانة وهي فرع من أمجاد القبيلة
الصنهاجية "البربرية" المشهورة في المغرب العربي. ومن رجالات هذه الأسرة
المشهورين في التاريخ الذين كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يفتخر بهم:
المعز لدين الله بن باديس (حكم: 406-454هـ/1016-1062م) الذي قاوم البدعة
ونصر السنة وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة، ثم مؤسس الدولة
الصنهاجية وابن الأمير باديس بن منصور والى إفريقيا والمغرب الأوسط (حكم:
373-386 هـ/984-996م) سليل الأمير "بلكين بن زيري بن مناد المكنى بأبي
الفتوح والملقب بسيف العزيز بالله الذي تولى الإمارة (361-373 هـ/971-984م)
إبان حكم الفاطمين.
في العهد العثماني برزت عدة شخصيات من بينها:
قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس احميدة بن باديس (توفى سنة 969 هـ/1561م)
الذي قال عنه شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون : "هو من بيوتات قسنطينة
وأشرافها وممن وصلت إليه الريّاسة والقضاء والإمامة بجامع قصبتها، وخَلَفُ
سلف صالحين علماء حازوا قصب السبق في الدراية والمعرفة والولاية، وناهيك
بهم من دار صلاح وعلم وعمل".
أبو زكرياء يحيى بن باديس ابن الفقيه القاضي أبي العباس "كان حييا ذا خلق
حسن، كثير التواضع، سالم الصدر من نفاق أهل عصره، كثير القراءة لدلائل
الخيرات وذا تلاوة لكتاب الله".
أبو الحسن علي بن باديس الذي اشتهر في مجال الأدب الصوفي بقسنطينة إبان
القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي وهو صاحب القصيدة السينية التي
نظمها في الشيخ "عبد القادر الجيلاني" مطلعها:
ألا سر إلى بغداد فهي مني النفس وحدق لهمت عمن ثوى باطن الرمس
الشيخ المفتي بركات بن باديس دفين مسجد سيدي قمّوش بقسنطينة في الفترة
نفسها.
أبو عبد الله محمد بن باديس الذي قال عنه الشيخ الفكون : "كان يقرأ معنا
على الشيخ التواتي (محمد التواتي أصله من المغرب، كانت شهرته بقسنطينة،
وبها انتشر علمه. كانت له بالنحو دراية ومعرفة حتى لقب بسيبويه زمانه، وله
معرفة تامة بعلم القراءات) آخر أمره، وبعد ارتحاله استقل بالقراءة عليّا
وهو من موثّقي البلدة وممن يشار إليه".
الشيخ أحمد بن باديس الذي كان إماما بقسنطينة أيام "الشيخ عبد الكريم
الفكون" خلال القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي.
من أسلاف عبد الحميد المتأخرىن، جدّه لأبيه: الشيخ المكي بن باديس الذي كان
قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي المجلس البلدي،
وقد احتل مقاما محترما لدى السكان بعد المساعدات المالية التي قدمها لهم
خاصة أثناء المجاعة التي حلت بالبلاد فيما بين 1862 – 1868م وانتخب إلى
الاستشارة في الجزائر العاصمة وباريس، وقد تقلّد وساما من يد نابليون
الثالث (كان رئيسا لفرنسا من 1848-1852م ثم إمبراطورا لها من 1852-1870م)،
وعمه احميدة بن باديس النائب الشهير عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع
عشر الميلادي الذي اشترك مع ثلاثة من زملائه النواب في عام 1891م في كتابة
عارضة دوّن فيها أنواع المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب
الجزائري في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي من الإدارة الاستعمارية ومن
المستوطنين الأوروبيين الذين استحوذوا على الأراضي الخصبة سلبا من
الجزائريين وتركوهم للفقر والجوع، وقاموا بتقديمها إلى أحد أعضاء مجلس
الشيوخ الفرنسي الذي حضر إلى الجزائر من أجل البحث وتقصي الأحوال فيها كي
يقدمها بدوره إلى الحكومة الفرنسية وأعضاء البرلمان الفرنسي في باريس وذلك
بتاريخ 10 أفريل سنة 1891 أي بعد ولادة عبد الحميد بن باديس بحوالي ثلاثة
سنوات فقط.
وهناك قسم من عائلة ابن باديس كانوا قادة كبار مع الأمير عبد القادر
الجزائري وأسرتهم المحتلون سنة 1263/1847 وأرسلوهم إلى فرنسا، وأودعتهم
بالسجن في باريس وقد تم الأفرج عنهم مع الأمير عبد القادر الجزائري في عام
1852م وتم نفيهم إلى بلاد الشام تحت رعاية الأمير عبد القادر الجزائري في
عدة مناطق في لبنان وفلسطين وسوريا .
في الأردن بمنطقة اربد بالأغوار الشماليه
مولده ونشأته
هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحّول بن الحاج علي النوري
بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن بركات بن عبد الرحمن بن باديس الصنهاجي.
ولد بمدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني
1307 هـ الموافق لـ 4 ديسمبر 1889م على الساعة الرابعة بعد الظهر، وسجل يوم
الخميس 12 ربيع الثاني 1307هـ الموافق لـ 5 ديسمبر 1889م في سجلات الحالة
المدنية.
كان عبد الحميد الابن الأكبر لوالديه، فأمه هي: السيدة زهيرة بنت محمد بن
عبد الجليل بن جلّول من أسرة مشهور بقسنطينة لمدة أربعة قرون على الأقل،
وعائلة "ابن جلّول من قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال الأوراس، انتقل
أحد أفرادها إلى قسنطينة في عهد الأتراك العثمانيين وهناك تزوج أميرة تركية
هي جدة الأسرة (ابن جلول). ولنسب هذه الإمرأة العريق، تزوجها محمد بن
مصطفى بن باديس (متوفى 1951)والد عبد الحميد. وكان والده مندوبا ماليا
وعضوا في المجلس الأعلى "وباش آغا" لشرفي الجزائر، ومستشارا بلديا بمدينة
قسنطينة ووشحت فرنسا صدره بوسام الشرف قالب:فرنسي، وقد احتل مكانة مرموقة
بين جماعة الأشراف وكان من ذوي الفضل والخلق الحميد ومن حفظة القرآن، ويعود
إليه الفضل في إنقاذ سكان منطقة واد الزناتي من الإبادة الجماعية سنة 1945
على إثر حوادث 8 ماي المشهورة، وقد اشتغل بالإضافة إلى ذلك بالفلاحة
والتجارة، وأثرى فيهما.
وكان والده بارًا به يحبه ويتوسم فيه النباهة، فقد سهر على تربيته وتوجيهه
التوجيه الذي يتلاءم مع فطرته ومع تطلعات عائلته. وعبد الحميد بن باديس
نفسه يعترف بفضل والده عليه منذ أن بصر النور وفقد قال ذلك في حفل ختم
تفسير القرآن سنة 1938 م، أمام حشد كبير من المدعوين ثم نشره في مجلة
الشهاب : إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني
وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وبراني كالسهم
وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة... فالأشكرنه بلساني
ولسانكم ما وسعني الشكر.».
أما اخوته الستة فهم: الزبير المدعو المولود والعربي وسليم وعبد الملك
ومحمود وعبد الحق، وأما أختاه فهما نفيسة والبتول. كان أخوه الزبير محاميا
وناشرا صحفيا في الصحيفة الناطقة بالفرنسية "صدى الأهالي" L'Echo Indigène
ما بين 1933م – 1934م. كما تتلمذ الأستاذ عبد الحق على يد أخيه الشيخ عبد
الحميد بالجامع الأخضر وحصل على الشهادة الأهلية في شهر جوان سنة 1940م على
يد الشيخ مبارك الميلي بعد وفاة الشيخ بن باديس بحوالي شهرين.
طلبه للعلم
ختم عبد الحميد بن باديس حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ثم تتلمذ على
الشيخ حمدان الونيسي، وهو من أوائل الشيوخ الذين كان لهم أثر طيب في اتجاهه
الـديـنـي، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له: "اقرأ العلم
للعلم لا للوظيفة"، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند
فرنسا.
في المدينة المنورة
بعد أداء فريضة الحج مكث الشيخ ابن باديس في المدينة المنورة ثلاثة أشهر،
ألقى خلالها دروساً في المسجد النبوي، والتقى بشيخه السابق أبو حمدان
الونيسي وتعرف على رفيق دربه ونضاله فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي.
وكان هذا التعارف من أنعم اللقاءات وأبركها، فقد تحادثا طويلاً عن طرق
الإصلاح في الجزائر واتفقا على خطة واضحة في ذلك. وفي المدينة اقترح عليه
شيخه الونيسي الإقامة والهجرة الدائمة، ولكن الشيخ حسين أحمد الهندي المقيم
في المدينة أشار عليه بالرجوع للجزائر لحاجتها إليه. زار ابن باديس بعد
مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصر واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة
السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ
الونيس.
العودة إلى الجزائر
عاد ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 م واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع في
العمل التربوي الذي صمم عليه، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار، وكان المسجد هو
المركز الرئيسي لنشاطه، ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء
المسلمين، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقنع بوجهة واحدة، فاتجه إلى
الصحافة، وأصدر جريدة المنتقد عام 1925 م وأغلقت بعد العدد الثامن عشر؛
فأصدر جريدة الشهاب الأسبوعية، التي بث فيها آراءه في الإصلاح، واستمرت
كجريدة حتى عام 1929 م ثم تحولت إلى مجلة شهرية علمية، وكان شعارها: "لا
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وذلك في سنة 1931 في نادي الترقي بالجزائر العاصمة. أوتوقف المجلة في شهر
شعبان 1328 هـ (أيلول عام 1939 م) بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية،
وحتى لا يكتب فيها أي شيء تريده منه الإدارة الفرنسية تأييداً لها، وفي سنة
1936 م دعا إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة
قضية الجزائر، وقد وجه دعوته من خلال جريدة لاديفانس التي تصدر بالفرنسية،
واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته وكذلك بعض الشخصيات المستقلة،
وأسفر المؤتمر عن المطالبة ببعض الحقوق للجزائر، وتشكيل وفد سافر إلى فرنسا
لعرض هذه المطالب وكان من ضمن هذا الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب
العقبي ممثلين لجمعية العلماء، ولكن فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة
الوفد....
العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس
لا شك أن البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، وفي بلد
كالجزائر عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا، وعن معاناته من
الجهل والاستسلام للبدع-فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي
الإحساس المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره
واجباً عليه، وكان ابن باديس من هذا النوع. وإن بروز شخصية كابن باديس من
بيئة ثرية ذات وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين،
وكان بإمكانه أن يكون موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار
طريق المصلحين.
وتأتي البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود
إلى الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث تعرف على
المفكرين والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما دعا
إليه من نقاء العقيدة وصفائها. وكان لمجلة المنار التي يصدرها الشيخ رشيد
رضا أثر قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول المطروحة.
ومما شجع ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله-وقد وصفهم
هو بالأسود الكبار-من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي
والميلي. وقد عملوا معه في انسجام قلّ أن يوجد مثله في الهيئات الأخرى.
آثار ابن باديس
شخصية ابن باديس شخصية غنية ثرية ومن الصعوبة في حيز ضيق من الكتابة
الإلمام بكل أبعادها وآثارها؛ فهو مجدد ومصلح يدعو إلى نهضة المسلمين ويعلم
كيف تكون النهضة. يقول«' إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله
ورسوله إذا كانت لهم قوّة، وإذا كانت لهم جماعة منظّمة تفكّر وتدبّر
وتتشاور وتتآثر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرّة، متساندة في العمل عن
فكر وعزيمة. '» إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت
لهم قوّة، وإذا كانت لهم جماعة منظّمة تفكّر وتدبّر وتتشاور وتتآثر، وتنهض
لجلب المصلحة ولدفع المضرّة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة. }}
الشّيخ عبد الحميد ابن باديس (يسارا) والشّيخ الطيّب العقبي (يمينا)وهو
عالم مفسّر، فسّر القرآن الكريم كلّه خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية
كما شرح موطأ مالك خلال هذه الفترة، وهو سياسي يكتب في المجلات والجرائد
التي أصدرها عن واقع المسلمين وخاصة في الجزائر ويهاجم فرنسا وأساليبها
الاستعمارية ويشرح أصول السياسة الإسلامية، وقبل كل هذا هو المربي الذي أخذ
على عاتقه تربية الأجيال في المدارس والمساجد، فأنشأ المدارس واهتم بها،
بل كانت من أهم أعماله، وهو الذي يتولى تسيير شؤون جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين، ويسهر على إدارة مجلة الشهاب ويتفقد القاعدة الشعبية باتصالاته
المستمرة. إن آثار ابن باديس آثار عملية قبل أن تكون نظرية في كتاب أو
مؤلَّف، والأجيال التي رباها كانت وقود معركة تحرير الجزائر، وقليل من
المصلحين في العصر الحديث من أتيحت لهم فرص التطبيق العملي لمبادئهم كما
أتيحت لابن باديس ؛ فرشيد رضا كان يحلم بمدرسة للدعاة، ولكن حلمه لم يتحقق،
ونظرية ابن باديس في التربية أنها لا بد أن تبدأ من الفرد، فإصلاح الفرد
هو الأساس.